تواجه المجتمعات الإنسانية حالياً العديد من القضايا التعليمية، والتى تحتاج من كافة التنظيمات المجتمعية شراكة من أجل التصدى لمواجهتها. فقد بدأت الفجوات الثقافية والمهنية تظهر بين الأجيال فى المجتمعات الإنسانية، فهناك أجيال أصبح فى مقدورها أن تكتسب معارف ومهارات تساعدها على التكيف مع التغيرات الثقافية المعاصرة وتؤهلها للتعامل معها بعكس الجيل الأكبر الذى يفتقد لمثل هذه المهارات، وتظهر هنا أهمية التنظيمات المجتمعية فى التنمية الثقافية والمهنية لهذا الجيل الأكبر(1)
كما أن تربية النفس على التمسك بمعايير الالتزام والسير بما جاء فيها فى كل حين وفى كل موقف،وتربية الأبناء وأفراد المجتمع كله فى مختلف مؤسساته وقطاعاته فى ضوء مبادئ هذا الالتزام أمر غاية فى الأهمية، وينبغى تفعيل المشاركة المجتمعية فى تنميته.
ولقد ضعفت مكانة المدرسة، واهتزت الثقة فى التعليم النظامى (التمدرس) فى توفير فرص للتنمية المهنية المتجددة للعاملين فى سوق العمل، بينما قويت النظم الخاصة البديلة لهذه المدرسة فى تقديم خدماتها فى مجال التنمية المهنية، ويستلزم هذا وقفة لتفعيل الشراكة المجتمعية نحو دعم هذا التوجه وتوحيد الجهود وتكاملها فى مجال التنمية المهنية للعاملين فى سوق العمل، كما ينبغى أن تخضع هذه البرامج فى هذا المجال للترشيد، فتربية الإنسان وإعداده مهنياً للحياة وللعمل لا يقتصر تحقيقها على تنظيم مجتمعى بعينه، وإنما تشترك وتتكامل فى تحقيقها جهود العديد من المؤسسات المجتمعية، فعلاقات التأثير والتأثر بين كافة الجهود التربوية المقدمة من مؤسسات المجتمع المختلفة واضحة وجلية، ومن ثم يصبح من الصعب- بل من المستحيل- الفصل بين التربية والمجتمع بجميع عناصره ومؤسساته(2)
ومن ثم فالتنمية الثقافية والمهنية وتحقيق جوانب الالتزام لدى المواطن لا يجب أن تترك دون إحداث شراكة فعالة بين التنظيمات الاجتماعية والمهنية فى المجتمع، كما أن الاستثمارات فى التربية والتعليم يجب أن تتم فى شراكة بين الدولة وبقية هذه التنظيمات الاجتماعية والمهنية وفق ضوابط ومعايير محددة وليس على ضوء أهواء ومغامرات.
ونعرض فى السطور التالية أهم القضايا التربوية المعاصرة والتى تمثلت فيما يلى:
1- التنمية الثقافية والمهنية بين أفراد المجتمع العربي:
بداية تمثل الثقافة قيم ومعتقدات ونتاجات الأفراد المادية واللامادية، وهى تمثل مجمل طريقة حياة الأفراد والجماعات بجوانبها المادية واللامادية فى المجتمع، والثقافة تشمل مختلف مناشط الحياة مثل اللغة وطرق المعيشة وطرق التفكير وغيرها.
ويمكن تلخيص تعريفات الثقافة حول النسيج الكلى الذى يشتمل على الاعتقاد والمعرفة والفن والأخلاق والقانون والعادة، وكل القدرات التى يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً فى المجتمع، والثقافة تتألف من أنماط ظاهرة ومتضمنة للرموز التى تعبر عن الإنجازات المتميزة للجماعات الإنسانية، بما فى ذلك من تجسيد لهذه الرموز فى أشياء مصنوعة. والثقافة هى "مجموعة النشاط الفكرى والفنى فى معناها الواسع وما يتصل بهما من مهارات وما يعيش عليها من وسائل"، فالثقافة موصولة بمجمل الأنشطة الاجتماعية الأخرى مؤثرة فيها ومتأثرة بها، معينة عليها، ومستعينة بها، ليتحقق بذلك المضمون الواسع للثقافة متمثلاً فى تقويم شامل للمجتمع فى كل جوانب سعيه الحضارى إنتاجاً وارتفاعاً وأخذاً وعطاءاً فى تفاعل خصب وعطاء متجدد. والثقافة هى: "مجمل التراث الاجتماعى، وهى أسلوب حياة المجتمع التى تنظم حاجاته الاجتماعية وعلاقات الأفراد مع مجتمعهم ومع غيرهم من المجتمعات"، وتتناقل الأجيال المتعاقبة التراث الثقافى عن طريق الاتصال والتفاعل الاجتماعى، وعن طريق الخبرة بشئون الحياة والممارسة لها. والثقافة هى كل ما صنعه المجتمع واكتشفه، وهو يواجه مشكلاته التى صادفته وهو ينشط سلوكياً وتفاعلياً لإشباع حاجاته الحيوية والنفسية والاجتماعية والعقلية. وهناك نظرات أخرى فى الثقافة منها أن الثقافة هى كل عضوى يتمثل فى طريقة الحياة فى المجتمع، والثقافة هى مجموعة مختلفة من ألوان السلوك وأسلوب التفكير والتوافق فى الحياة وتدخل فى ذلك المعارف والمهارات والاتجاهات والتوقعات التى يكتسبها أفراد المجتمع ويتناقلونها كما هى أو يعدلون فيها وفق تغيير الظروف(3)
وقد لخص (حامد عمار)(4) هذه التعريفات والتحديدات للثقافة فى أنها تتفق جميعاً على جانبين هامين من ركائز الثقافة: أولهما أنها كل ما يصنعه الإنسان أو يقننه أو يتواضع عليه من أسلوب للحياة ومعداتها وأدواتها وعلاقاتها وأنماط التعامل والقيم التى ينبغى أن تسود فى الأخذ والعطاء بين أفراد مجتمع من المجتمعات. والجانب الثانى أن هذا الرصيد مما يصنعه الإنسان هو من الأمور التى تتناقلها الأجيال عن طريق التعليم والممارسة وأساليب التنشئة الاجتماعية المختلفة، كما أن هذا الرصيد الثقافى قابل للتعديل والتطوير، ومن ثم فإن هذا الرصيد الثقافى قابل للتنمية.
وإذا كانت الثقافة سمةً من سمات المجتمع، فإن تنمية هذه الثقافة تعتبر ضرورية فى تطور هذا المجتمع، بما يواكب تغير المطالب الاجتماعية والإمكانات المادية المتاحة وحاجات المجتمع المتغيرة.
وتعتبر التربية – من خلال وسائطها المختلفة- أداة نقل وتنمية للتراث الثقافى، وموقف التنمية للتراث الثقافى ليس واحداً فى جميع عناصر الثقافة، فتنمية عموميات الثقافة لا يكون بدرجة التنمية فى خصوصياتها، ففى عموميات الثقافة تتردد التوجهات التربوية المتضمنة فى التنمية المنشودة قبل إفساح المجال لأى تعديل أو تجديد أو تنمية فى الثقافة، بينما فى خصوصيات الثقافة فإن التنمية فى عناصرها تكون أكثر حرية، فالثقافة تنمى من أطرافها وتتطور وتتجدد حسب شدة تأثير التوجهات التربوية المتضمنة فى التنمية المجتمعية.
وفى هذا المجال يرى (سعيد إسماعيل على)(5) أن التعليم له أهمية قصوى بالنسبة للثقافة، وقد سارت العلاقة بينهما على نهج يجعل من صحة التعليم سبيلاً أساسياً للصحة الثقافية، ويتبدى هذا من خلال بعض النظرات إلى الواقع التعليمى فى مصر وتداعياتها الثقافية، فالتنوع الثقافى أمر مرغوب ونهج محمود، ولكنه محكوم بقاعدة، وإذا اختل ميزان العمل بها فلربما أساء وأنبت مظاهر تشرزم وفرقة، وتلك القاعدة تقول بأنه كلما اقتربنا من الأصول والجذور، فالأفضل هو التجانس والوحدة، وكلما بعدنا فى الفروع صح التعدد والتنوع.
وهكذا فإن تحديث المجتمع وما يتضمنه من عمليات تربوية متكاملة ومن توجهات ثقافية معاصرة فى هذا المجال يمكن أن يساهم فى "تنمية" الثقافة حتى تساير التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التى تطرأ على المجتمع، وتعمل التنمية الثقافية على تقبل التجديد الثقافى بحيث يصبح الأفراد بمهاراتهم ومعارفهم ضمن عوامل التجديد والتقدم الثقافى فى المجتمع، كما تساعد عمليات التنمية الثقافية أفراد الشباب المتعلم على فهم أسباب التغيرات الثقافية وغاياتها فى المجتمع،، والنتائج التى تؤدى إليها، وأن يكشف لهم ما فى عناصر ثقافاتهم الحالية من مواطن قصور ونواحى ضعف، وما يجب تجديده وتنميته فى عناصر ثقافاتهم حتى تتمشى وتواكب التغير فى المطالب الاجتماعية وسياسات المجتمع الاقتصادية وما طرأ من تطورات مجتمعية.
ويحتاج الإنسان إلى ثقافات متجددة،وقد لا يحصل عليها من مؤسسات التعليم النظامية، والتى لم تعد كافية لتنمية تلك الثقافات المتجددة، ومن ثم يجب أن تتبنى تنظيمات مجتمعية أخرى فى مجتمع الأمة هذه التنمية الثقافية، وفضلاً عن ذلك فإنه ما يشهده العالم المعاصر اليوم من تطور هائل ومستمر فى مجال العلم والمعرفة يفرض مشاركة التنظيمات الاجتماعية والمهنية للمؤسسات التعليمية النظامية فى تقديم خدمات ثقافية ومهنية للأفراد فى المجتمعات من أجل مواكبة هذا التطور، ومن أجل إحداث تنمية ثقافية ومهنية لهؤلاء الأفراد.
ويشير (ألكين وآخرون) (Alkin et al.)(6) إلى وجود العديد من عوامل التنمية الثقافية والمهنية فى مجتمع الأمة منها التدريب أثناء الخدمة (In- Service Training) أو التربية المستمرة (Continuous Education)، أو التربية أثناء الخدمة (In- Service Education)، أو النمو المهنى (Professional Growth)، أو التنمية المهنية (Professional Development). فالتنمية المهنية للأفراد تعنى بتحسين المعارف والمهارات اللازمة لهؤلاء الأفراد أثناء ممارستهم لأعمالهم والتى تؤدى إلى تجويد أدائهم لأعمالهم ومهامهم المنوطين بها، وتتضمن عمليات التنمية المهنية للعاملين برامج منظمة ومخططة تمكنهم من النمو فى الثقافة المهنية مما يزيد من طاقاتهم الإنتاجية ويحسن كفاياتهم المهنية.
ومن آليات التنمية الثقافية والمهنية فى المجتمع الإنسانى ما يعرف بالاهتمام بمبادئ التعليم المستمر،والذى يعرف على أنه آلية يستطيع بها الأفراد ترقية معارفهم ومهاراتهم فى مجالات أعمالهم، وفى شتى أمور حياتهم، حيث يطلع هؤلاء الأفراد على ما وصلت إليه العلوم والتكنولوجيا من تقدم فى مجالات تخصصاتهم، إضافة إلى ترقية ثقافاتهم الحياتية(7).
وهكذا ينظر إلى التعليم المستمر كأداة للتنمية الثقافية والمهنية، حيث يتعود الفرد على البحث والاستقصاء ومواجهة التطورات والتغيرات المستمرة فى الحياة والتكيف معها.
وتهدف التنمية الثقافية والمهنية أيضاً إلى تنمية الوعى بالمشكلات الاقتصادية من أجل إحداث تعديل فى رؤية الفرد وتعامله مع هذه المشكلات بما يخفف من تأثير هذه المشكلات فى المجتمع ويقلل من حدتها،ولعل فى برامج التنمية الثقافية والمهنية ما يساعد الفرد على اكتساب مهارات العمل المنتج لكى يصبح عضواً فعالاً فى التنمية وتمكنه أيضاً من المحافظة على المعارف والمهارات الاقتصادية بما يحسن من أنماط الإنتاج ويرشد الاستهلاك. وبناءً عليه فالمأمول من التنمية الثقافية والمهنية للفرد أن تحسن من ثقافته نحو الاستهلاك وتقوى إرادته نحو التوفير.
كما تتضمن التنمية الثقافية أيضاً ما يعرف بعملية تنمية الثقافة السياسية من خلال إكساب الفرد القيم والأفكار والمعلومات والاتجاهات الإيجابية التى تتصل بالنسق السياسى للمجتمع الذى يعيش فيه الفرد، إلى جانب مساعدة هذا الفرد على المشاركة بإيجابية فى الحياة السياسية حاضراً ومستقبلاً(
. وتتسع التنمية الثقافية فى مجال الثقافة السياسية لتجعل الفرد على دراية بمختلف القضايا والاتجاهات السياسية المحلية والعالمية المعاصرة وكيفية التعامل معها، فضلاً عن اهتمام الثقافة السياسية بمساعدة الفرد على بناء هويته المستقلة على نحو يسمح له بالتعبير عن ذاته،وإعداده للقيام بأدواره المختلفة وذلك عن طريق مختلف الوسائط والمؤسسات المجتمعية(9).
كما تسعى الثقافة السياسية إلى تحقيق درجة عالية من فهم القضايا السياسية بما يمكن الفرد من إدراك أبعادها وتحديد دوره تجاهها ومدى مشاركته فى أحداثها(10).